11.

ظلال مهاجرة على جنح الظلام

النجوم في كبد السماء ما هي إلا مسامير يثبت بها الليل أجزاءه لكي لا تتساقط علينا، وعندما تشرق شمس الغد يحزم أمتعته ويرحل، لا أخشاك ولا ترعبني ظلمتك البتة، صمتك وهدوء ساعاتك أرى فيهما نفسي بعمق، كم أنت حنون أيها الليل تخبؤنا جميعا  تحت سترتك كأنك تخشى علينا من الفقد أو التيه في سواد سمائك، ظلموك حينما وصفوك بالوحشية كم كذبت عليّ أمي عندما قالت بأن الوحوش وذئاب الغابة تظهر ليلاً، لم تكن تعلم بأنها تخرج لتتنفس وجودها في حضرتك.. آه ما أقدس ساعاتك وما أجملها، صمتك هذا دليل عظمتك.

ترى لما أنا هكذا أعشق ساعاتك الطوال حينما يفارق النوم مضجعي، حينما يحلو لأهدابي السمر، أمضي ليلي بترتيب أشيائي المقدسة التي لا يرغب بها أحد التي ينفر منها الجميع وعندما تشرق تباشير الفجر وتعلن رحيل الليل أحزم أمتعتي أنا الأخرى وارحل عن عالمي الخاص وأعود لرتابة أيامي واندمج بصعوبة مع المحيط الذي قذفت فيه عنوة.

هكذا يأتي الليل وهكذا يرحل ببساطة، نخفي في جعبته أسرارنا، يضمها لأسطورته ويكتبنا في سطوره وببساطة يرحل وسرعان ما يعود، وما أحوجنا لعودته.

ذات يوم وأنا أتجاذب أطراف الحديث مع والدي عن ظاهرة الليل قال لي تخيلي يا غريبة لو لم يكن هنالك ليل كيف ستكون حياتنا؟ ألبست على وجهي عبارات الدهشة كيف لا يكون هنالك ليل؟ صمت برهة وقلت: هل يموت الليل يا أبي؟

خرجت مسرعة نظرت إلى السماء وقلتُ لنفسي كما لو أنني أحاور أحداً غريبا: في تعاقب الليل والنهار وميلاد يوم جديد مع كل فجر هناك سر حتماً.. ربما هو يوم واحد يغرينا بتكراره ونحن لا ندري، لا استطيع التفكير في عدم وجود ليل تسكن فيه أرواحنا فإذا انعدم الليل تشردت أرواحنا وأصبحت بلا مأوى، تخيلت الكون بلا ليل رأيت عندها ذواتنا متشردة في بيداء الوجود متسكعة تحت الظلال، تحشو نفسها في غرف الزمن بين ظهيرة ناعسة ومساء مترهل وصباح شاحب، يا له من مشهد مرعب هناك في عالم ينعدم فيه الليل.

مذهل هذا الصفاء الذي يغشى أرواحنا عندما يأتي الليل، هدوء لا أحد يحدث جلبة أو ضوضاء، أناس نيام وحده الناسك في محرابه يذكر ربه فتطيب حياته، هذا ما أخبرني به أبي ذات يوم، أعمدة الإنارة تهمس بنورها الخافت تعين رجل أعياه الركض على فك طلاسم دربه، أضواء تتسرب من شرفات المنازل يا له من منظر جميل والليل رفيقنا، لطالما شدني فضول لمعرفة ظاهرة الظلام عن حقيقتها، لأنه لا يأتي هكذا عبثاً هناك سر ما في مجيئه بهذا الصمت؟

ذات ظهيرة حاولت أن أرصد حركة الظلال عندما كانت الشمس تتسرب من على شرفة السماء، جلست تحت ظل شجرة وبدأت أرقب ظلي عندما انزوى في الخلف شدتني حركة تمايله فحيث ما مالت الريح مال، حقاً الظل هو الهدية التي يقدمها الضوء لهياكلنا في النهار، فجأة وحينما كانت نظراتي تنغمس في أجزاء ظلي المبتور عندما تلاحم مع ظل أغصان الشجرة داهمتني فكرة أن أعثر على ظلي في الليل، ترى أين تختفي ظلالنا والظلام دامس؟

 سر الليل أعمق من نفوسنا كلما تفكرنا فيه زاد عمقاً ومن هنا قررت أن أرقب ظلي ليلة اليوم وأتعقبه في الأماكن التي يحجب فيها ضوء القمر كما ترقبته في الظهيرة، شعوري باللاجدوى من الانخراط في عالمي الواقعي هو ما أجبرني على البحث عن أجزائي المبتورة في الظلام، لا أشعر بالاكتمال مع أحد سوى ظلي أردت أن أتعرف عليه وأتحسسه في الظلام تراه هل يشعر بي كما أشعر به أنا أشعرأفي النهار؟

رافق المساء الشمس وقادها إلى حافة الغروب جو رائع هو في حقل السماء مساءً، وأنا أتعقب حركة الغروب أحس وكأنني مقيمة في ديار السماء من نور نجومها بدا لدي لطف سكانها وطيب منبتهم، ليسوا كسكان الأرض سكان السماء مدر صدورهم يحمل حطام جميع القلوب المتورمة.

تمر ساعات الغروب متثاقلة تجر بعضها وتمشي رويدا، استهواني منظرها وهي تربت على كاهل المساء تحمل عبء ثقله، ما زلت أنتظر حلول الظلام بكل أشيائه حتى أرى عودة ظلي من تحت ضوء عمود الإنارة شيء غريب هو الذي يحدث لم يأتي الليل بعد رغم غروب الشمس في المعادلة الكونية، تغيب الشمس ويظهر القمر لكن اليوم يحدث العكس غابت الشمس غاب القمر واختفى الليل تحت جُبته وانزوى، هكذا يكون حال السماء مشمئز عندما يغيب القمر وتحل محله الغيوم.

 في هذه الأثناء تحمل الظلال أشلائها وتهاجر على متن ظلام غائم، لقد شعرت بكل شيء يوحي بالعدم حينما هاجرت الظلال، أدركت عندها أن لكل شيء في الكون سر لم يوجد هكذا عبثاً حتى ظلي الذي أعتبره جزء مني يهاجر ويرحل على متن الظلام عندما تغزو سماءه غيمة.

حدث الصباح وتنفست أهدابي على صوت أمي تنادي: غريبة.. الشمس تحضر نفسها للغروب وأنتِ ما زلتِ نائمة حتى هذه اللحظة، –ابتسمت- وقلت: حتى الشمس عندما جاءت على وقع هذه الحروف "ش.م.س" هنالك سر.


مريم السويسي كاتبة قصص قصيرة.