كيف نحافظ على طابع المكان؟ مقابلة مع المفكرة الإثنوجرافية السعودية

المفكرة الإثنوجرافية السعودية مبادرة تحريرية على وسائل التواصل الاجتماعي، يقوم عليها ثلاثة أفراد سعوديون من خلفيات مهنية واجتماعية متعددة. فأسعد هو فنان بصري وطبيب، وُلد في المدينة المنورة ونشأ في عائلة ذات أصول تركية ومصرية وسورية. هاجرت عائلته في الغالب خلال العهد العثماني واستقرت بالقرب من المسجد النبوي، وعمل أجداده بشكل رئيسي في تسهيل خدمات الحج والعمرة. أما أنهار فنانة معاصرة وصانعة أفلام من خلفية يمنية-إندونيسية هاجرت عائلتها لجدة في سبعينات القرن الماضي، ونشطت في مجال التجارة والتصوير الفوتوغرافي، ولينة هي طبيبة مهتمة بالأصوات الحضرية، والأنثروبولوجيا الاجتماعية، ولدت ونشأت في جدة كابنة جيل رابع لأسرة مكية ذات أصول غرب إفريقية هاجر جدها الأكبر لمكة طلبا للعلم الشرعي ما بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. أما عضوها الرابع فهو الجمهور الذي تفاعل مع فكرة المفكرة، وهو بغض النظر عن اتساع شعبته لا يختلف كثيرًا عن مؤسسيها من حيث تعدد الخلفيات والاهتمامات.


متى وكيف بدأت المفكرة؟ 

بدأت المفكرة عام 2017 م، وكانت شرارتها الأولى عندما أدرك أسعد - وهو ابن المدينة المنورة - أن المكان الذي نشأ فيه كان يتغير بسرعة، فالعديد من الأماكن التي تحمل ذكريات طفولته كالأسواق المحيطة بالمسجد النبوي والأحياء القديمة، كانت تختفي لصالح مشاريع توسعة الحرم والتطوير. كان يشعر بالحنين للأسواق التي كان يزورها برفقة جدته، ويتخيل البيت الذي وُلد فيه والده وحدثه عنه كثيرًا في حي بقرب بئر بضاعة، لكن ذلك الحي أُزيل قبل ولادته؛ ليصبح البيت جزءًا من ساحة المسجد النبوي. ولَّد هذا في داخله حزناً عميقًا تنامى مع مرور الوقت كلما لاحظ أن الكثير من العمارة الما-قبل حداثية في المدينة بدأت بالاندثار. 


كان للعائلة نسخة من كتاب اسمه الحبيبة لحاتم عمر طه و صالح عبد الحميد حجار، يحتوي صورًا عديدة لأحياء المدينة المنورة قبل توسعة المسجد النبوي. صعب على أسعد استيعاب أن كل هذا اختفى، وبالتوازي اكتشف علاقته بالكاميرا والتفت لأهمية التوثيق، فبدأ بصناعة فيلمه القصير عن المدينة المنورة صورة لا-ذاتية، والذي عُرض لاحقًا في زاوية تجريب في النسخة الأولى من مهرجان البحر الأحمر السينمائي، وبالتالي كانت بدايات المفكرة محصلة لكل هذا، ثم تم تعميق موضوعها وتطويرها في وقت لاحق.

غلاف كتاب الحبيبة لحاتم عمر طه و صالح عبد الحميدحجار

لماذا اختير "طابع المكان" كالمحفز والظاهرة الأساسية للمفكرة؟ 

ربما لأن ارتباطنا بالمكان وتغيره يشكلان نوعا من الثنائية التي لا يكتمل أحدها دون الآخر، لكن طابع المكان أو طبيعته يدفعنا للتساؤل عن ماهيته أيضًا، وتاريخه، وطبقاته، وعلاقتنا به، ومدى تقاطع إدراكنا له بالآخرين منطقيًا، وإذًا فما هي الطبائع التي تخلقها هذه التقاطعات كلها، وكيف يمكننا القبض عليها؟ وإلى جانب التغييرات الملموسة في العمارة وإعادة تشكيل المدن، نحن في خضم تحولات سريعة ومعقدة على المستوى الاجتماعي والديموغرافي في السعودية، تتعلق بأوضاع العمل والمعيشة للجاليات، وبأنظمة الكفالة والإقامة، وأيضًا بسياسات توطين الوظائف (السعودة). ظل هذا التغيير غير مرئيًا لبعض الوقت، وتبعاته لم تكن ملموسة بعد؛ ولذلك وجدنا - خصوصًا في بدايات عمل المفكرة - أنه من المهم لفت الانتباه لذلك من خلال إيصال هذه الأصوات، وعرض هذه الصور، وجعل هذا التغيير أكثر مرئية

ما بعض الطرق التي استخدمتها وابتكرتها المفكرة في تذكر وأرشفة طابع المكان؟ 

عبر الطرق التقليدية المعتمدة على الفضول، والملاحظة الذاتية، والبحث والتساؤل، ثم التوثيق المرئي، الصوتي أو الكتابي استجابة لمتغيرات المناطق المختلفة التي نعيش فيها، ولكن اللحظة التي صنعت الفارق كانت عقب النداء الذي أطلقته المذكرة وحوَّل عملية التوثيق فيها إلى عملية تفاعلية جماعية أثناء عمليات الإزالة التي ابتدأت في جدة في أكتوبر 2021 م، وبهذا انضم للفريق عضو رابع هو الجمهور الذي لفتنا لأهمية البحث والأرشفة عبر وسائط أخرى تحتوي على مواد مهمة كاليوتيوب وسناب تشات.

ما عملية المساهمة في المفكرة؟

 تستقبل المفكرة مساهمات المهتمين من مختلف مدن المملكة، عبر حسابها على الإنستقرام أو الإيميل، ومن ثم نقوم بالتعرف على خلفية الصورة، ومكانها وأهميتها للمساهم أو مجتمعه ثم مشاركتها عبر الحساب مع الحفاظ على خصوصية المساهمين في حال رغبوا في ذلك. تساهم المفكرة في نشر الفعاليات الثقافية المتعلقة بموضوعها، ونداءات الباحثين والمهتمين في التوثيق أيضا، والمساعدة في البحث عن بعض المحال التجارية التي انتقلت من أحياء لأخرى وتشجع قاعدتها الصغيرة على المشاركة في الملاحظة، والبحث، والتقصي.

تستقبل المفكرة صورًا من كل أنحاء المملكة وتنشرها على حسابها على إنستقرام

كم مدينة وحارة غطتها المفكرة؟ ما الذي تعلمته المفكرة عنها، وهل هناك أنماط  لاحظتها؟

غطت المفكرة ثلاث مدن بشكل أساسي (جدة، المدينة المنورة، مكة المكرمة)، وقرابة ثلاث وعشرين حارة، واكتسبت خلال ذلك دروسًا فردية وجماعية كثيرة. قد يكون أولها إعادة فهمنا للمكان، وما الذي يصنعه، وكيف نوثقه؟ التوثيق عملية مخاض طويلة تكاد ألا تنتهي، وفي كل لحظة، ومع كل صورة، ووسيط توثيقي مادي أو الكتروني مختلف ندرك شيئًا جديدًا، وننسحب نحو متاهة جديدة من احتمالات التوثيق اللانهائية التي بات يخلقها الهاتف الجوال، ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، ورغبة الجموع في القبض على اللحظة. كما ولَّدت هذه العملية فينا العديد من التساؤلات والنقاشات حول سياسات صناعة المكان، وأبعاده الأنثروبولوجية، وأخلاقيات التوثيق، وجماليات الصورة

لاحظنا أنماطًا مختلفة بكل تأكيد، ليس أثناء قيامنا بالتوثيق فحسب، بل وخلال تلقينا للمساهمات وفرزها. فبعض الأحياء كانت تميل لتوثيق الأحداث الاجتماعية (كالأعراس، الوداعيات، ودوريات الكرة، والإفطار الرمضاني) بينما مالت الأخرى لتوثيق المطاعم والأسواق والأماكن التجارية. وفي الأحياء التي زرناها كان بإمكاننا ملاحظة المراكز التي يدور حولها الحي كالبرحات، المراكيز، المساجد، الأسواق، أو أحد بيوت كبار عائلات الحي. كما لاحظنا التنوعات العرقية والقبلية، وهجرات السكان الداخلية، وتميز بعض المناطق بأنماط عمرانية دونًا عن أخرى. ففي جدة، سرقت انتباهنا المطاعم والمقاهي السودانية التي تجتمع حولها الجاليات الشرق أفريقية في أحياء كالهنداوية وعنيكش، وسوق اليمنة الممتد من أزقة حارة اليمنيين في الهنداوية وصولا لواجهة شارع الستين، أما في الصحيفة فأسرنا مركز تجاري متعدد الطوابق يدعى "الصحيفة مول" متخصص باللوازم الصومالية من مكتبة الكتب الدينية ثنائية اللغة في الطابق الأرضي إلى المطاعم في الطابق الأخير، يليه حي الكندرة، وهو سوق مفتوح معمور بالمنازل ذات الطراز العمراني الحداثي، ومركز تواجد الحضارم وتجارتهم. وفي أجزاء من حي الجامعة، تمركز بعض أبناء قبيلتي حرب وجهينة، وسميت الحارات والمساجد بأسماء مشائخهم، ثم اكتسبت صبغة جديدة مع الوقت ممثلة في أسماء فتوات الحارة أو أمهر لاعبي الكرة فيها، وكذلك هو الحال في أحياء كقويزة والروابي إذ ارتبطت بهجرات وتجمعات قبلية خارجية وداخلية انتقلت من فضاء لآخر ثم استوطنت المكان لجيلين أو ثلاث.

تستقبل المفكرة صورًا من كل أنحاء المملكة وتنشرها على حسابها على إنستقرام

كيف تتصور مستقبل المفكرة؟

تمر المفكرة بمرحلة انتقالية حاليًا، نظرًا لانشغال أعضاء الفريق بمشاريعهم الخاصة، ولكننا في طور البحث والنقاش عن  الشكل الذي يحافظ على استدامة عملها، ومشاريع التوثيق التي نحلم ونود القيام بها ومشاركتها. المشاركة المجتمعية والمساهمة الداخلية من سكان المناطق ومتابعي المفكرة أمران بالغَا الأهمية. نود العمل على مشاريع تتضمن المزيد من التعاون مع أشخاص مهتمين بالتوثيق، ونهدف إلى رفع الوعي بأهمية التوثيق، والانخراط بشكل أعمق في الكتابة عن مدننا. كما نتمنى ألَّا تقتصر عمليات التوثيق على أنماط الأماكن فقط، فطبيعة الفضاء لا يمكن فصلها أبدًا عن الناس الذين يسكنونه، وعن ذكرياتهم. المفكرة لا تقتصر على إنشاء أرشيف بصري فحسب، بل تهدف أيضًا إلى تقديم نوع من المواساة الاجتماعية، ومنح طريقة لاستمرار روح المكان، ولو عبر صورة

Khaled AlqahtaniComment