عن التاريخ الشفوي وغناء النساء: مقابلة مع تارا الدغيثر

2a3cb670-5b12-4110-ab9c-d51175ec5b8c.JPG

الصورة بعدسة محمد حمدي *

تارا الدغيثر باحثة وقيمة فنية مهتمة بفنون وتراث شبه الجزيرة العربية. أكملت دراسة البكالوريس في تخصص الاتصال الجماهيري من الجامعة الأمريكية في الشارقة في ٢٠١٣ ثم التحقت بجامعة سنترال سانت مرتينز حيث أكملت دراسة الماجستير في التقييم والنقد الفني في ٢٠١٥.

لطالما ألهم الفن والموسيقا اهتمامات تارا الأكاديمية والبحثية. ونشأ لديها شغف خاص في الموسيقا الشعبية وقصصها ولذلك أسست منصة وأرشيف صوت الصورة لتوثق التاريخ المجهول لغناء النساء في السعودية. انطلق الأرشيف رسميًا في مايو ٢٠٢١ لكن تارا شاركت رحلة تأسيس الأرشيف منذ بداياته في مقابلة خاصة مع وَرد في يناير ٢٠٢١ قبل الانطلاقة الرسمية.

تأخذنا تارا في هذه المقابلة في رحلة اكتشافها للتاريخ الشفوي والغنائي الثري للنساء في السعودية ورغبتها في كشفه ومشاركته مع الجميع. وتشاركنا القصص واللحظات التي أدت أشعلت شغفها في تأسيس منصة اجتماعية وفنية تعتبر الأولى من نوعها في السعودية.


أغلب المشاريع الفنية الاجتماعية لا تصل رسالتها لأغلبية الناس لصعوبة اللغة المستخدمة في وصفها بالإضافة إلى عوامل أخرى. فإذا طلب منك أن تشرحي فكرة صوت الصورة للعامة كيف ستصفين هذا الأرشيف باختصار؟

منذ أن بدأت مشروع صوت الصورة قررت ألا أستخدم أي لغة فنية أو أكاديمية قد يواجه البعض صعوبة في فهمها. صوت الصورة باختصار منصة اجتماعية وأرشيف نسائي سماعي تهتم بتوثيق وأرشفة التاريخ الموسيقي للمرأة السعودية. نستطيع من خلال صوت الصورة أن نكتشف الموسيقا الشعبية التي تؤدى بصوت المرأة. يبنى هذا الأرشيف بمساهمة المجتمع، حيث يستطيع أي شخص أن يسجل مقطعًا غنائيًا ويحمله على الأرشيف. لذلك لا يوجد مالك لهذا الأرشيف، ولا يُتحكم به وجهة نظر شخص واحد. صوت الصورة أرشيف يشارك فيه أي شخص يساهم به بتوثيق صوت المرأة. 

قد يعتقد البعض أن من الأسهل مثلًا أن أجمع أغاني لمغنيات سعوديات على شكل قائمة وأنشرها على يوتيوب أو تطبيقات متشابهة. لكن أردت أن أبني مساحة خاصة للنساء ليشاركن بها ويسردن ويوثقن تاريخهن الخاص.

LOGO-01 copy.png

شعار صوت الصورة

قد يحصر العديد من الأشخاص المعرفة بالعلوم والتراث المادي. لكن أرشيف صوت الصورة يعتمد على التراث والتاريخ الشفوي الذي لا يلقى نفس الأهمية. كيف قادك دراسة وفهم هذا التاريخ إلى تأسيس صوت الصورة؟ 

فكرت بهذا الأمر كثيرًا، وأستطيع أن أجيب عليك بنقطتين رئيسيتين. أولًا كما ذكرت أن الاعتقاد السائد أن علمنا ومعلوماتنا عن تاريخ وثقافات العالم اكتسبناها من وثائق مكتوبة وتراث مادي، كالمعالم الأثرية وغيرها. لكن أكثر تلك الوثائق والمعالم قد يتخللها فجوات لأننا نعتمد في تفسيرها فقط على  الكلمات والنصوص المكتوبة بها دون النظر في في  الحالة النفسية والثقافية المصاحبة للأشخاص والمجتمعات أثناء تدوينها، وهذا ينتج لنا دراسات تعتبر انعاكسًا غير مكتمل لحقيقة الزمن الذي عاشوه. لذلك من المهم أن تكون دراستنا لتاريخنا العام والخاص شاملة أكثر وتتخطى الوثائق والنصوص المكتوبة كالمصدر الوحيد للمعرفة. عندما ننظر لثقافتنا على سبيل المثال نجد أنها تعتمد على التداول الشفوي والتراث الغير مادي، كالشعر والأغاني والقصص. لذلك من المهم أن نبدأ ونبحث في هذا التاريخ الشفوي - خصوصًا الخاص بالنساء - لا لنكوِّن صورة أوضح لماضينا فقط، بل لنصبح قادرين أكثر على فهم مستقبلنا. 

ثانيًا، أنا كمغنية ومعجبة بالموسيقا لدي فضول بالتعلم عن أهمية الموسيقا في تكوين ثقافات الشعوب المختلفة. لكني لا أستطيع أن أبدأ البحث في موضوع غناء النساء في السعودية - الفكرة الأساسية لأرشيف صوت الصورة -  لأننا لا نعرف أغلب الفنانات والمغنيات إلا إذا كان لهن ظهور إعلامي. ولأن هذا الظهور نادر ولا يشمل إلا قلة من المغنيات السعوديات، فإنه لا يعكس الثقافات المختلفة في السعودية وعلاقتها مع الغناء والموسيقا. 

IMG_4701.jpg

عينة من الأشرطة الغنائية التي وجدتها تارا أثناء بحثها في الأسواق الشعبية

ما الحدث الذي قادك إلى التفكير بإنشاء أرشيف صوت الصورة؟

سجلت في برنامج صيفي عن الموسيقا عربية، واكتشفت أن هذا البرنامج الصيفي استمر لأكثر من ٢٩ سنة. مؤسس هذا البرنامج هو مدير قسم الموسيقا الشرقية في كلية بيركلي للموسيقا، إحدى أعرق المؤسسات الموسيقية في العالم. ومشرفتي في البرنامج كانت الصحافية كي هاردي، والتي زارت السعودية واهتمت بالتوثيق والكتابة عن غناء النساء في السعودية. بعد أن قدمت على البرنامج، ذكرت في إيميل القبول أنني أول سعودية تقبل في البرنامج. شعرت وقتها بالفخر، ولكن بنفس الوقت شعرت بأنها معجزة؛ فكيف يعقل أن أكون أول سعودية تسجل في برنامج عريق كهذا؟  وبعد أن التحقت بالبرنامج، درست عدة مواد نظرية وعملية، كالدروس الصوتية وغيرها. 

بعدها بدأت فكرة مشروع صوت الصورة تتكون لدي نتيجة لفضول وإحساس بالمسؤولية غمرني تجاه الموسيقا العربية التي أجهل تاريخها. فالصحافية هاردي أخبرتني أنها عندما كانت في السعودية كانت تجول مدنها وتوثق. وهي أول من عرفني على مغنيات سعوديات مختلفات كتوحة، وابتسام لطفي، وعتاب، وصفية الشتيوي. أشعرني هذا الحوار حينها بالخجل لأنني لم أعرفهن من قبل. لكنني بنفس الوقت غمرني فضول شديد لمعرفة هذا التاريخ الموسيقي للمغنيات السعوديات الذي يجهله الكثير. وقد يعرف البعض أسامي المغنيات اللاتي ذكرتها، لكن كانت تلك المرة الأولى التي سمعت بها تلك الأسامي. لذلك شعرت بأن هناك الكثير من الأشخاص الذين لم يسمعوا عنهن من قبل. وشعرت أن هناك بالتأكيد فنانات أكثر من القائمة التي ذكرتها لي هاردي يجب علي أن أكتشفها.

بعد أن اتضحت ملامح المشروع في بالك، ما الخطوات الأولى التي اتبعتيها لإنشائه؟ 

عشت فترة من حياتي في عُمان، وكنت ألاحظ وأنا هناك التطورات السريعة التي مرت بها السعودية في ٢٠١٦ م  و٢٠١٧ م. وقتها أدركت أنه حان الوقت لأرجع لبلدي وأكتشف ذلك التاريخ الغنائي الذي تعلمت عنه في البرنامج، والذي ما زال مخفيًا لأسباب اجتماعية. أتيحت لي الفرصة في صيف ٢٠١٩ م أن أقدم فكرة مشروع فني لصندوق الأمير كلاوس. ذكرت في تقديمي للفكرة أنني أريد أن أجول السعودية، وأن وأوثق كل الأغاني الشعبية وقصصها. شعرت بأنهم لن يقبلوا الفكرة لأنها كبيرة وأكبر مني. لكن لمفاجأتي قبلوها. وأتى القبول مع بداية جائحة كورونا في ٢٠٢٠ م لذلك تمت أوائل المراحل في البحث الذي يعتمد عليه المشروع على الإنترنت.

هل ترددتِ قبل أن تقرري العودة مرة أخرى إلى السعودية وبداية مشروع لا تعلمين ردة فعل الناس له؟

صراحة كنت خائفة من العودة إلى السعودية وإكمال مهنتي كقيمة وباحثة فنية. كنت مترددة لأنني اعتقدت أنه لا يوجد أي اهتمام بمواضيع كالتاريخ الشفوي، وأن الاهتمام السائد في المشهد الفني المعاصر الذي نشهده هو الأعمال الفنية الكبيرة أو الشهيرة. لكن الحمد لله أنني أكملت إصراري على هذا الموضوع دون خوف، وحاولت المبادرة بالبحث عن المصادر - كالمنحة التي ذكرتها سابقًا - التي قد تساعدني على الانطلاقة بالمشروع.

كيف بدأتِ بحثك للمشروع في الميدان بعد أن أمضيت الفترة الأولى من البحث على الإنترنت؟ 

بدأته قبل أربعة أشهر (تقريبًا في أغسطس ٢٠٢٠). وبدأت في جدة لأن هناك أسامي  مغنيات معروفة أساسًا، ورغبت أيضًا أن أبدأ بمدينة التسجيل فيها ليست بفكرة غريبة. أصعب فكرة في هذا الأرشيف هو فكرة تسجيل الصوت لأشخاص غرباء واكتساب ثقتهم. وهذا لا يعني أن التراث الغنائي في الأماكن الأخرى في السعودية أقل أهمية من جدة، ولكن نبعت هذه الخطوة الأولى من ملاحظة اجتماعية ورغبة بالتدرج بالمناطق والمدن والقرى.

صور للدفتر الشخصي للفنانة سارا عاشور

شاركينا بعض الإحصائيات عن الأرشيف. 

سجلت ٧ تواريخ شفوية وتقريبًا انتهيت من أكثر من ١٠٠ تسجيل غنائي جديد وقديم (أنسخ اللتسجيلات القاديمة من كاسيهات شخصية لفنانات غنين في مناسبات اجتماعية، الأعراس)، إلى جانب ٢٠٠ مقطع صوتي. كل ما في الأرشيف له حقوق خاصة بالنشر، وهذا لم يحصل من قبل في السعودية. لذلك عندما أطلب من النساء توقيع عقد معهن، تهتقد بعضهن أن العقد مضر لأن تجربتهن مع العقود من قبل كانت احتكارًا لمواهبهن. لكن الآن هذه العقود تحمي النساء من استخدام أصواتهن وتجسيلاتهن من الاستخدام بدون إذنهن. وهذا استغرق الكثير من الوقت (ما يقارب نصف مدة البحث الذي استمر لأربعة أشهر) من البحث لأننا نحتاج أن نفهم الخطورة التي تقع عليهن وعلينا عندما نروج وننشر هذا الأرشيف.

Embed Block
Add an embed URL or code. Learn more

ما طموحاتك لهذا الأرشيف، وأين تطمحين أن يكون في المستقبل؟ 

أريد أن أرى هذا الأرشيف كمنصة مستقلة تشجع الموهبة وأن تزيد تقدير المجتمع لها. لذلك آمل أن يستمر بكونه تشاركيًا ليستطيع جميع من في المجتمع المساهمة به. الآن الأرشيف غير ربحي، ولكن آمل أن يصبح ربحيًا لأننا نحتاج إلى المال لنستمر بالعمل به وندعم النساء اللاتي ساهمن ببنائه بأصواتهن. وآمل أن يقود محتوى الأرشيف إلى ابتكار وصنع منتجات ثقافية  مختلفة كالأفلام والكتب وغيرها. وأخيرًا أطمح أن يؤدي الأرشيف إلى الكثير من التعاونات بين الجهات الإبداعية والفنية والفنانين.